الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الجصاص: قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ}.قِيلَ: إنَّ الْبُدْنَ الْإِبِلُ الْمُبَدَّنَةُ بِالسَّمْنِ، يُقال بَدَّنْتَ النَّاقَةَ إذَا سَمَّنْتهَا، وَيُقال بَدُنَ الرَّجُلُ إذَا سَمِنَ.وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا بَدَنَةٌ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، ثُمَّ سُمِّيت الْإِبِلُ بُدْنًا مَهْزُولَةً كَانَتْ أَوْ سَمِينَةً، فَالْبَدَنَةُ اسْمٌ يَخْتَصُّ بِالْبَعِيرِ فِي اللُّغَةِ، إلَّا أَنَّ الْبَقَرَةَ لَمَا صَارَتْ فِي حُكْمِ الْبَدَنَةِ قَامَتْ مَقَامَهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ فَصَارَ الْبَقَرُ فِي حُكْمِ الْبُدْنِ، وَلِذَلِكَ كَانَ تَقْلِيدُ الْبَقَرَةِ كَتَقْلِيدِ الْبَدَنَةِ فِي بَابِ وُقُوعِ الْإِحْرَامِ بِهَا لِسَائِقِهَا وَلَا يُقَلَّدُ غَيْرُهُمَا، فَهذانِ الْمَعْنَيَانِ اللَّذَانِ يَخْتَصُّ بِهِمَا الْبُدْنُ دُونَ سَائِرِ الْهَدَايَا، وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قال: «الْبَقَرَةُ مِنْ الْبُدْنِ».وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قال لِلَّهِ على بَدَنَةٌ هَلْ يَجُوزُ لَهُ نَحْرُهَا بِغَيْرِ مَكَّةَ؟ فَقال أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ وَقال أَبُو يُوسُفَ: لَا يَجُوزُ لَهُ نَحْرُهُ إلَّا بِمَكَّةَ.وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِيمَنْ نَذَرَ هديا أَنَّ عَلَيْهِ ذَبْحَهُ بِمَكَّةَ وَأَنَّ مَنْ قال: لِلَّهِ على جَزُورٌ أَنَّهُ يَذْبَحُهُ حَيْثُ شَاءَ.وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قال: «مَنْ نَذَرَ جَزُورًا نَحَرَهَا حَيْثُ شَاءَ، وَإِذَا نَذَرَ بَدَنَةً نَحَرَهَا بِمَكَّةَ»، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بن علي وَسَالِمٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ.وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَيْضًا وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قالا: إذَا جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ هديا فَبِمَكَّةَ وَإِذَا قال بَدَنَةٌ فَحَيْثُ نَوَى.وَقال مجاهد: لَيْسَتْ الْبُدْنُ إلَّا بِمَكَّةَ.وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ الْبَدَنَةَ بِمَنْزِلَةِ الْجَزُورِ وَلَا يَقْتَضِي إهْدَاءَهَا إلَى مَوْضِعٍ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ نَاذِرِ الْجَزُورِ وَالشَّاةِ وَنَحْوِهَا، وَأَمَا الْهَدْيُ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي إهْدَاءَهُ إلَى مَوْضِعٍ، وَقال اللَّهُ تعالى: {هديا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} فَجَعَلَ بُلُوغَ الْكَعْبَةِ مِنْ صِفَةِ الْهَدْيِ.وَيُحْتَجُّ لِأَبِي يُوسُفَ بِقوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} فَكَانَ اسْمُ الْبَدَنَةِ مُفِيدًا لِكَوْنِهَا قُرْبَةً كَالْهَدْيِ؛ إذْ كَانَ اسْمُ الْهَدْيِ يَقْتَضِي كَوْنَهُ قُرْبَةً مَجْعُولًا لِلَّهِ، فَلَمَا لَمْ يَجُزْ الْهَدْيُ إلَّا بِمَكَّةَ كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْبَدَنَةِ.قال أَبُو بَكْرٍ: وَهذا لَا يَلْزَمُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ ذَبْحُهُ قُرْبَةً فَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالْحَرَمِ؛ لِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ قُرْبَةٌ، وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي سَائِرِ الْأَمَاكِنِ، فَوَصْفُهُ لِلْبُدْنِ بِأَنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَا يُوجِبُ تَخْصِيصَهَا بِالْحَرَمِ.قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} رَوَى يُونُسُ عَنْ زِيَادٍ قال: رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَنَحَرَهَا وَهِيَ بَارِكَةٌ، فَقال: انْحَرْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً سُنَّةَ أَبِي الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم.وَرَوَى أَيْمَنُ بْنُ نَابِلٍ عَنْ طَاوُسٍ قال فِي قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} قِيَامًا.وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قال: مَنْ قرأ: {صَوَافَّ} فَهِيَ قَائِمَةٌ مَضْمُومَةٌ يَدَاهَا، وَمَنْ قرأ: {صَوَافِنَ} قِيَامٌ مَعْقُولَةٌ.وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: قرأهَا {صَوَافِنَ}.قال: مَعْقُولَةٌ، يقول: بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ.وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي الضُّحَى قال: سَمِعْت ابْنَ عَبَّاسٍ وَسُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآية صَوَافَّ قال: قِيَامًا مَعْقُولَةً.وَرَوَى جُوَيْبِرٌ عَنْ الضَّحَّاكِ قال: كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقْرَؤُهَا: {صَوَافِنَ} وَصَوَافِنَ أَنْ يُعْقَلَ إحْدَى يَدَيْهَا فَتَقُومَ عَلَى ثَلَاثٍ.وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قرأهَا: {صَوَافِي} قال: خَالِصَةٌ مِنْ الشِّرْكِ.وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّهَا تُنْحَرُ مُسْتَقْبِلَةً الْقِبْلَةَ.قال أَبُو بَكْرٍ: خَلَصَتْ قراءة السَّلَفِ لِذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ: أَحَدُهَا: {صَوَافَّ} بِمَعْنَى مُصْطَفَّةً قِيَامًا، و{صَوَافِي} بِمَعْنَى خَالِصَةً لِلَّهِ تعالى، و{صَوَافِنَ} بِمَعْنَى مُعَقَّلَةً فِي قِيَامِهَا.قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِمْ: إذَا سَقَطَتْ وَقال أَهْلُ اللُّغَةِ: الْوُجُوبُ هُوَ السُّقُوطُ، وَمِنْهُ: وَجَبَتْ الشَّمْسُ إذَا سَقَطَتْ لِلْمَغِيبِ، قال قَيْسُ بْنُ الْخَطِيمِ: أَطَاعَتْ بَنُو عَوْفٍ أَمِيرًا نَهَاهُمْ عَنْ السِّلْمِ حَتَّى كَانَ أَوَّلَ وَاجِبِ يَعْنِي: أَوَّلَ مَقْتُولٍ سَقَطَ عَلَى الأرض.وَكَذَلِكَ الْبُدْنُ إذَا نُحِرَتْ قِيَامًا سَقَطَتْ لِجُنُوبِهَا، وَهذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أراد بِقوله: {صَوَافَّ} قِيَامًا؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ بَارِكَةً لَا يُقال إنَّهَا تَسْقُطُ إلَّا بِالْإضافة فَيُقال سَقَطَتْ لِجُنُوبِهَا، وَإِذَا كَانَتْ قَائِمَةً ثُمَّ نُحِرَتْ فَلَا مَحَالَةَ يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ السُّقُوطِ، وَقَدْ يُقال لِلْبَارِكَةِ إذَا مَاتَتْ فَانْقَلَبَتْ عَلَى الْجَنْبِ إنَّهَا سَقَطَتْ لِجَنْبِهَا، فَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِلْأَمْرَيْنِ، إلَّا أَنَّ أَظْهَرَهُمَا أَنْ تَكُونَ قَائِمَةً فَتَسْقُطَ لِجَنْبِهَا عِنْدَ النَّحْرِ.وقوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أُرِيدَ بِوُجُوبِهَا لِجُنُوبِهَا مَوْتُهَا، فَهذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ سُقُوطَهَا فَحَسْبُ، وَأَنَّهُ إنَّمَا أراد سُقُوطَهَا لِلْمَوْتِ فَجَعَلَ وُجُوبَهَا عِبَارَةً عَنْ الْمَوْتِ، وَهذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهَا إلَّا بَعْدَ مَوْتِهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قوله صلى الله عليه وسلم: «مَا بَانَ مِنْ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهُوَ مَيْتَةٌ».وقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} يَقْتَضِي إيجَابَ الْأَكْلِ مِنْهَا، إلَّا أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْأَكْلَ مِنْهَا غَيْرُ وَاجِبٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَبًّا مَنْدُوبًا إلَيْهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ أَكَلَ مِنْ الْبُدْنِ الَّتِي سَاقَهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَكَانَ لَا يَأْكُلُ يَوْمَ الْأَضْحَى حَتَّى يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْعِيدِ ثُمَّ يَأْكُلَ مِنْ لَحْمِ أُضْحِيَّتِهِ، وَقال صلى الله عليه وسلم: كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيّ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَكُلُوا وَادَّخِرُوا».وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَلْقَمَةَ قال: بَعَثَ مَعِي عَبْدُ اللَّهِ بِهَدْيِهِ فَقُلْت لَهُ: مَاذَا تَأْمُرُنِي أَنْ أَصْنَعَ بِهِ؟ قال: «إذَا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ فَعَرِّفْ بِهِ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ فَانْحَرْهُ صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَ لِجَنْبِهِ فَكُلْ ثُلُثًا وَتَصَدَّقْ بِثُلُثٍ وَابْعَثْ إلَى أَهْلِ أَخِي ثُلُثًا».وَرَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، «كَانَ يُفْتِي فِي النُّسُكِ وَالْأُضْحِيَّةِ ثُلُثٌ لَك وَلِأَهْلِك وَثُلُثٌ فِي جِيرَانِك وَثُلُثٌ لِلْمَسَاكِينِ».وَقال عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ عَطَاءٍ مِثْلَهُ، قال: وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْبُدْنِ وَاجِبًا كَانَ أَوْ تَطَوُّعًا فَهُوَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ إلَّا مَا كَانَ مِنْ جَزَاءِ صَيْدٍ أَوْ فِدْيَةٍ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ أَوْ نَذْرٍ مُسَمًّى لِلْمَسَاكِينِ.وَقَدْ رَوَى طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قال: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَتَصَدَّقَ بِثُلُثِهَا وَنَأْكُلَ ثُلُثَهَا وَنُعْطِيَ الْجَازِرَ ثُلُثَهَا»، وَالْجَازِرُ غَلَطٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال لِعَلِيٍّ: «لَا تُعْطِ الْجَازِرَ مِنْهَا شَيْئًا»، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْجَازِرُ صَحِيحًا، وَإِنَّمَا أَمَرَنَا بِإِعْطَائِهِ مِنْ غَيْرِ أُجْرَةِ الْجِزَارَةِ، وَإِنَّمَا نَهَى أَنْ يُعْطَى الْجَازِرُ مِنْهَا مِنْ أُجْرَتِهِ.وَلَمَا ثَبَتَ جَوَازُ الْأَكْلِ مِنْهَا، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ إعْطَائِهِ الْأَغْنِيَاءَ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهُ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ مِنْهُ الْغَنِيَّ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ.وَإِنَّمَا قَدَّرُوا الثُّلُثَ لِلصَّدَقَةِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ؛ لِأَنَّهُ لَمَا جَازَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ بَعْضَهُ وَيَتَصَدَّقَ بِبَعْضِهِ، وَيُهْدِيَ بَعْضَهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الصَّدَقَةِ كَانَ الَّذِي حَصَلَ لِلصَّدَقَةِ الثُّلُثُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَا «قال صلى الله عليه وسلم فِي لُحُومِ الْأَضَاحِيّ: فَكُلُوا وَادَّخِرُوا» وَقال اللَّهُ تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البائس الْفَقِيرَ} حَصَلَ الثُّلُثُ لِلصَّدَقَةِ.وقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} عَطْفًا عَلَى الْبُدْنِ يَقْتَضِي عُمُومُهُ جَوَازَ الْأَكْلِ مِنْ بُدْنِ القران وَالتَّمَتُّعِ لِشُمُولِ اللَّفْظِ لَهَا.قوله تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} قال أَبُو بَكْرٍ: الْقَانِعُ قَدْ يَكُونُ الرَّاضِي بِمَا رُزِقَ، وَالْقَانِعُ السَّائِلُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ غُلَامُ ثَعْلَبٍ قال: أَخْبَرَنَا ثَعْلَبٌ عَنْ ابْنِ الْإعرابيِّ قال: الْقَنَاعَةُ الرِّضَا بِمَا رَزَقَهُ اللَّهُ تعالى، وَيُقال مِنْ الْقَنَاعَةِ رَجُلٌ قَانِعٌ وَقَنِعٌ وَمِنْ الْقُنُوعِ رَجُلٌ قَانِعٌ لَا غَيْرَ قال أَبُو بَكْرٍ: وَقال الشَّمَاخُ فِي الْقُنُوعِ:وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْمُرَادِ بِالآية، فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ قالوا: الْقَانِعُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ وَالْمُعْتَرُّ الَّذِي يَسْأَلُ.وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قالا: الْقَانِعُ الَّذِي يَسْأَلُ.وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ قال: الْمُعْتَرُّ يَتَعَرَّضُ وَلَا يَسْأَلُ.وَقال مجاهد: الْقَانِعُ جَارُك وَالْغَنِيُّ وَالْمُعْتَرُّ الَّذِي يَعْتريك مِنْ النَّاسِ.قال أَبُو بَكْرٍ: إنْ كَانَ الْقَانِعُ هُوَ الْغَنِيُّ فَقَدْ اقْتَضَتْ الآية أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَحَبُّ الصَّدَقَةَ بِالثُّلُثِ؛ لِأَنَّ فِيهَا الْأَمْرَ بِالْأَكْلِ وَإِعْطَاءِ الْغَنِيِّ وَإِعْطَاءِ الْفَقِيرِ الَّذِي يَسْأَلُ.قوله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} قِيلَ فِي مَعْنَاهُ: لَنْ يَتَقَبَّلَ اللَّهُ اللُّحُومَ وَلَا الدِّمَاءَ وَلَكِن يَتَقَبَّلُ التَّقْوَى مِنْهَا.وَقِيلَ: لَنْ يَبْلُغَ رِضَا اللَّهِ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَبْلُغُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ.وَإِنَّمَا قال ذَلِكَ بَيَانًا أَنَّهُمْ إنَّمَا يَسْتَحِقُّونَ الثَّوَابَ بِأَعْمَالِهِمْ؛ إذْ كَانَتْ اللُّحُومُ وَالدِّمَاءُ فِعْلَ اللَّهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقُّوا بِهَا الثَّوَابَ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّونَهُ بِفِعْلِهِمْ الَّذِي هُوَ التَّقْوَى وَمَجْرَى مُوَافَقَةِ أَمْرِ اللَّهِ تعالى بِذَبْحِهَا.قوله تعالى: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} يَعْنِي: ذَلَّلَهَا لِتَصْرِيفِ الْعِبَادِ فِيمَا يُرِيدُونَ مِنْهَا خِلَافُ السِّبَاعِ الْمُمْتَنِعَةِ بِمَا أُعْطِيت مِنْ الْقُوَّةِ وَالْآلَةِ. اهـ. .قال ابن العربي: قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} فِيهَا ثَمَانِي عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:المسألة الأولى:قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الْبُدْنُ جَمْعُ بَدَنَةٍ، وَهِيَ الْوَاحِدَةُ مِنْ الْإِبِلِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ مِنْ الْبَدَانَةِ وَهِيَ السِّمَنُ، يُقال: بَدُنَ الرَّجُلُ بِضَمِّ الْعَيْنِ: إذَا سَمِنَ، وَبَدَّنَ بِتَشْدِيدِهَا: إذَا كَبِرَ وَأَسَنَّ، وَإِنَّمَا سَمَاهَا بِصِفَتِهَا لِيُنَبِّهَ بِذَلِكَ عَلَى اخْتِيَارِهَا، وَتَعْيِينِ الْأَفْضَلِ مِنْهَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَحَقُّ مَا اُخْتِيرَ لَهُ.وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ وَعَطَاءٍ أَنَّ الْبَقَرَةَ يُقال لَهَا بَدَنَةٌ وَحَكَى ابْنُ شَجَرَةَ أَنَّهُ يُقال فِي الْغَنَمِ، وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ، وَالْبُدْنُ هِيَ الْإِبِلُ.وَالْهَدْيُ عَامٌّ فِي الْإِبِلِ، وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ.المسألة الثَّانِيَةُ:قوله تعالى: {جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} وَهذا نَصٌّ فِي أَنَّهَا بَعْضُ الشَعَائِرِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.المسألة الثَّالِثَةُ:قوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} يَعْنِي مَنْفَعَةَ اللِّبَاسِ وَالْمَعَاشِ وَالرُّكُوبِ وَالْأَجْرِ، فَأَمَا الْأَجْرُ فَهُوَ خَيْرٌ مُطْلَقًا، وَأَمَا غَيْرُهُ فَهُوَ خَيْرٌ إذَا قَوَّى عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ.المسألة الرَّابِعَةُ:{فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ}: فِيهَا ثَلَاثُ قراءات: {صَوَافَّ} بِفَاءٍ مُطْلَقَةٍ، قراءة الْجُمْهُورِ.{صَوَافِنَ} بِنُونٍ، قراءة ابْنِ مَسْعُودٍ. {صَوَافِّي} بِيَاءٍ مُعْجَمَةٍ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ تَحْتِهَا، قراءة أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ.فَأَمَا قَوْلُ: {صَوَافَّ} فَمِنْ صَفَّ يَصُفُّ إذَا كَانَتْ جُمْلَةً؛ مِنْ مَقَامٍ أَوْ قُعُودٍ، أَوْ مُشَاةٍ، بَعْضُهَا إلَى جَانِبِ بَعْضٍ عَلَى الِاسْتِوَاءِ، وَيَكُونُ مَعْنَاهَا هاهُنَا صَفَّتْ قَوَائِمَهَا فِي حَالِ نَحْرِهَا، أَوْ صَفَّتْ أَيْدِيَهَا قال مُجَاهِدٌ. وَأَمَا {صَوَافِنُ} فَالصَّافِنُ هُوَ الْقَائِمُ.وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَثْنِي إحْدَى رِجْلَيْهِ.وَأَمَا {صَوَافِّي} فَهُوَ جَمْعُ صَافِيَةٍ، وَهِيَ الَّتِي أَخْلَصَتْ لِلَّهِ نِيَّةً وَجَلَالًا، وَإِشْعَارًا وَتَقْلِيدًا.وَقال أَبُو حَنِيفَةَ: لَا إشْعَارَ، وَهُوَ بِدْعَةٌ؛ لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ؛ وَكَأَنَّهُ لَا خَبَرَ عِنْدَهُ لِلسُّنَّةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَلَا لِلْأَحَادِيثِ الْمُتَعَاضِدَةِ، فَهِيَ فِعْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ بَعْدَهُ وَمَعَهُ وَالْخُلَفَاءُ لِلْإِشْعَارِ.المسألة الْخَامِسَةُ:قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} يَعْنِي انْحَرُوهَا، كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ اسْمٌ صَارَ كِنَايَةً عَنْ النَّحْرِ وَالذَّبْحِ، لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّهُ شَرْطٌ فِيهِ وَأَصْلٌ مَعَهُ.المسألة السَّادِسَةُ:فِي كَيْفِيَّةِ نَحْرِ الْهَدْيِ: وَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: قال ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ الصَّوَافِّ، فَقال: يُقَيِّدُهَا ثُمَّ يَصُفُّهَا.وَقال لِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ مِثْلَهُ.وَقال: فَيَنْحَرُهَا قَائِمَةً، وَلَا يَعْقِلُهَا، إلَّا أَنْ يَضْعُفَ إنْسَانٌ فَيَتَخَوَّفَ أَنْ تَتَفَلَّتَ بَدَنَتُهُ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْحَرَهَا مَعْقُولَةً، وَإِنْ كَانَ يَقْوَى عَلَيْهَا فَلْيَنْحَرْهَا قَائِمَةً مَصْفُوفَةً يَدَاهَا بِالْقُيُودِ.قال: وَسَأَلْت مَالِكًا عَنْ الْبَدَنَةِ تُنْحَرُ وَهِيَ قَائِمَةٌ هَلْ تُعَرْقَبُ؟ قال: مَا أُحِبُّ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الإنسان يَضْعُفُ عَنْهَا، فَلَا يَقْوَى عَلَيْهَا، فَيَخَافُ أَنْ تَتَفَلَّتَ مِنْهُ، فَلَا أَرَى بَأْسًا أَنْ يُعَرْقِبَهَا، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ لِلْعُلَمَاءِ: الْأَوَّلُ: يُقِيمُهَا.الثَّانِي: يُقَيِّدُهَا أَوْ يَعْقِلُهَا.الثَّالِثُ: يُعَرْقِبُهَا.وَزَادَ مَالِكٌ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ قُوَّةِ الرَّجُلِ وَضَعْفِهِ.وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِثْلُهُ.وَالْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: فِي نَحْرِهَا مُقَيَّدَةً: فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ فَنَحَرَهَا قال: ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً سُنَّةَ مُحَمَّدٍ.الثَّانِي: فِي نَحْرِهَا قَائِمَةً: فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ بِيَدِهِ سَبْعَ بُدْنٍ قِيَامًا».وَقَدْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَأْخُذُ الْحَرْبَةَ بِيَدِهِ فِي عُنْفُوَانِ أَيْدِهِ فَيَنْحَرُ بِهَا فِي صَدْرِهَا وَيُخْرِجُهَا عَلَى سَنَامِهَا، فَلَمَا أَسَنَّ كَانَ يَنْحَرُهَا بَارِكَةً لِضَعْفِهِ، وَيُمْسِكُ مَعَهُ رَجُلٌ الْحَرْبَةَ، وَآخَرُ بِخِطَامِهَا.وَالْعَقْلُ بَعْضُ تَقْيِيدٍ، وَالْعَرْقَبَةُ تَعْذِيبٌ لَا أَرَاهُ إلَّا لَوْ نَدَّ، فَلَا بَأْسَ بِعَرْقَبَتِهِ.المسألة السابعة:قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} يَعْنِي سَقَطَتْ عَلَى جُنُوبِهَا، يُرِيدُ مَيِّتَةً، كَنَّى عَنْ الْمَوْتِ بِالسُّقُوطِ عَلَى الْجَنْبِ، كَمَا كَنَّى عَنْ النَّحْرِ وَالذَّبْحِ بِذَكَرِ اسْمِ اللَّهِ، وَالَكِنايَاتُ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ أَبْلَغُ مِنْ التَّصْرِيحِ قال الشَّاعِرُ:وَقال آخَرُ: فِي مَعْنَاه، وَذَلِكَ كَثِيرٌ.
|